الحزبية: الواقع والمسيرة والأهداف!


لم تلد الساحات العربية مفكرين بارزين استطاعوا تقديم فكر يلبي طموحات الواقع، فكانت هذه الساحة نهبا للأفكار الواردة، وكانت سوريا ساحة تماثل بقية الساحات في استيراد الأفكار في انعكاس رؤيوي لما يكون عليه الغرب .


والأفكار التي غزت سوريا كان مصدرها واحدا، وإن اختلفت أسماؤها، وربما لانجانب الصواب إن قلنا كلها باستثناء الدينية الإسلامية في المضمون الفكري – وليسوا استثناء في مسيرتهم وإصرارهم على المنهج الذي جاء به المؤسسون – قد نشأت من فكرين أساسيين اجتاحا أوروبا هما : الماركسي ، والقومي الاشتراكي ، وكلا الفكرين وليدا صراع ديني في أوروبا …ولم يكن للفكر الليبرالي الذي كان يتشكل على حساب هذين الفكرين حضور في سوريا ، فقد قضت الانقلابات العسكرية المؤدلجة على الشخصيات التي اتهمت بالإقطاع والبرجوازية في بداية الاستقلال، وألصقت بها تهم الرجعية والعمالة …وبقيت الساحة السورية مفتوحة للصراع بين الأحزاب التي نشأت بتأثير الفكرين، فكان البعث سباقا إلى تسلم السلطة بانقلاب عسكري في 8 أذار 1963م بعد إخفاق تجربة الوحدة بين مصر وسوريا وإخفاق الاتحاد القومي ، ثم الاتحاد الاشتراكي في تحقيق وجود سياسي له كما ينبغي ، والوحدة في حقيقتها هي انقلاب عسكري نفذه عسكريون متمردون بمساعدة عبدالناصر رائد الانقلابات وبمباركة أمريكية رغم أكذوبة حلف بغداد والهالة الإعلامية المخطط لها لجعل الحلف أسطورة الصراع في المنطقة… وظاهرة الانقلابات هي في جوهرها تصميم أمريكي غربي؛ كما يصرح بذلك كوبلاند مؤلف كتاب لعبة الأمم، فأصبح الانقلاب العسكري هدفا للأحزاب الراديكالية، وكأن النضال الجماهيري الثوري يتجسد في القدرة على الوصول إلى السلطة بانقلاب عسكري …


لم يتنبه أحد إلى أن الانقلابات العسكرية هي جريمة كبرى بحق الوطن، واعتداء صارخ على حقوق الشعب، واغتيال لكل طموحاته، وأنها بوابة نحو جهنم الأجهزة القمعية والتخلف، وصناعة النفاق والارتزاق، وتدمير طاقات الوطن وقتل الإبداع، وتدمير التعليم، وكل أركان المجتمع الحيوية …


والأدهى أنه مخطط صهيوني لتدمير الوطن من داخله ، لكن هذا الفهم لايتأتى في ظل فقدان الوعي والتخلف في مجتمع رخو الأركان، فلابد من الاعتراف ومواجهة الحقيقة بكل شجاعة صريحة أننا شعوب خارجة من الاستعمار حديثا ولاحظ لها من السياسة والثقافة والوعي، وأعلى أرصدتها هوعفوية الوطنية، وحب الوطن والإخلاص له، وموروث تاريخي يقدس البطولة والفروسية، ويبحث عن المثال الفريد …


وأننا مجتمع يؤمن بالقوة بدءا من إخضاع الزوجة للرعب من ليلتها الأولى في قطع رأس القط إلى تنشئة أولادها على الرجولة الذكورية بمعنى القوة، وزرع الشر في نفوسهم تجاه الآخرين، وتربيتهم على حب التسلط وقهر الآخر والسيطرة عليه …


وكان أجمل ما عبرت عنه الناس بعفوية هو : لا انقلاب ناجح من دون جهة داعمة، وبهذا ربطت نجاح الانقلاب العسكري بوجود داعم غربي وراءه، أي خيانة صريحة للوطن ومستقبله، وتحقيق مصالح دول استعمارية، ولكن هل تخلت الأحزاب عن صراعها مع بعضها، وعن نظرتها السلطوية في قيادة الوطن ما دام الاتهام واضحا أن الانقلاب مؤامرة دولية، فهذا اتهام كاف إلى دفع الأحزاب الثورية إلى التخلي عن منهج الاستيلاء على السلطة وقيادة البلاد بانقلاب عسكري كعمل عصاباتي لاشرعية له إلا في قوة الحذاء العسكري، واستعداد صاحبه لحرق البلاد للبقاء على كرسي الحكم…


شيء من هذا التخلي لم يحصل، ولعل أهم صراع كان في البحث عن أخطائها الفكرية أو طروحاتها النظرية فيما بينها ، فكل حزب يرى نفسه أفضل من غيره، ويرى في غيره دمارا للبلد، وكل واحد منهم يرى عيوب غيره ولايرى عيوبه مهما تضخمت، وعلى عكس المطلوب منهم في التآلف والتواضع على فكر ينقذ البلاد من تخلف العسكر وإجرامهم واتباع فكر يؤمن بتداول السلطة سلميا وتقرير حياة مدنية عصرية تؤمن بالانتخابات الحرة النزيهة، فقد أصبحوا صورة أسوأ من صورة العسكري المتخلف المغامر والمجرم بحق الوطن، وربما لانغالي إن قلنا: إنهم قبلوا العمالة لأجهزة الانقلابي الأمنية في تحول كبير نحو الوضاعة…


أما العسكريون الانقلابيون فقد حسموا أمرهم طائفيا، وسخروا من صميم عقيدتهم الحزبية الثورية وجعلوها صيغة لإكراه الناس على اعتناقها رغم خروجهم عليها ، إذ غدت مجالا للارتزاق الرخيص ومشاركة غير أخلاقية في جريمة تدمير الوطن، فسيطروا على الدولة بمفاصلها الرئيسة، ونصبوا قائدا لهم صنما مؤلها بديلا عن أفكار الحزب الذي أوصلهم، فكان هذا القائد هو سوريا، وسوريا ملك يمينه وشماله يخونها جهارا نهارا، ويسخر منهم ويذلهم كعملاء وصنائع بقطع النظر عن خدمتهم له وتلبية رغباتهم الشخصية على حساب الآخرين ، وتوافقوا عليه، وصدَّق على تعيينه مجلس الطائفة الأعلى، وتركوا الآخرين في الأحزاب المشاكلة يتحاورون في البيضة والدجاجة …


انحسرت الحزبية على الساحة السورية مع اشتداد القبضة الأمنية الطائفية وتحولت إلى مجموعات بائسة مرتبطة بحزب السلطة وأجهزته الأمنية تحت يافطة الجبهة الوطنية، والعمل الجبهوي، وهو في حقيقته انتهازية سياسية ترضى بالفتات من مائدة النظام …
في 18 آذار 2011م خرج الشعب السوري مطالبا بحقه في الحياة الحرة الكريمة، فكان خروجه فضيحة لهذه الأحزاب التي نستطيع أن نقول: إنها وجدت ميتة تحت أقدام المتظاهرين …


شيء مؤسف ومؤلم أن تكون مسيرة هذه الأحزاب على مدى سبعين سنة ضربا من العبث والخواء والتصحر الفكري ؟!! ونستطيع أن نقول أيضا : إن الساحة السورية لم تعرف شيئا عن أفكار الحرية، وبناء الوطن، وحق المواطنة، والمشروع الوطني، والعدالة والمساواة واحترام الآخر في مشاركته بالوطن الواحد، وإيمان الجميع بأنهم يُكْملون بعضهم، وأن التنافس الشريف يلغي الذات، ويبرز ( النحن ) في ذوبان تام في المسؤولية الوطنية والإخلاص بها في العمل البناء ، فالأحزاب انشغلت في اتهام بعضها وتفنيد أفكار غيرها في هراء مضحك حين يكون الاختلاف في الشكليات لأفكار هي أصلا مسروقة، وسارقوها مدعون كاذبون أتوا بها جاهزة …

لم نكن مجتمعا واعيا منفتحا على الأسس السليمة للعمل السياسي، ولم تكن لدينا رؤى سليمة عن الحاضر والمستقبل وبناء الوطن، بل كنا ضحية لسيرفات الدبابات الانقلابية التي دهست الوطن وحولته إلى مزارع للطبقة الحاكمة، وأشاعت به ثقافة الانتهازية السياسية والتسلط الأمني والاستعداد لبيع الوطن وذبحه والتجارة بدماء أبنائه وقهرهم وإذلالهم … وربما تكون سوريا في الفوضى السياسية استثناء ، لكنه بشكل عام بقيت الساحات العربية فقيرة لفكر يعبر عن أصالة الأمة وحركتها التاريخية ومستقبلها …


إن حق الوطن هو المفقود الجوهري في الواقع ، فلا أحد يناقش مسألة اغتصاب مجموعة من المغامرين المقامرين العسكريين للحكم، ولا أحد يسأل عن تفسير معنى الحزب الطليعي، وبأي حق امتلك هذه الطلائعية؟ فالمجتمع يرزح بين القائد الأوحد، والحزب الوحيد، وأي دكتاتورية أكبر من هذا؟


لقد أدرك الغرب والصهيونية أن تصدير الفكر الانقلابي بشعارات قومية واشتراكية سيجعل المجتمع ساحة لصراعات داخلية تعطل مسيرة نموه وتطوره، وتربيه وليدا على الانحراف، واستلهام الأفكار الطوباوية المشوهة، وتقتل فيه أي تجربة سياسية نقية تهدف إلى بناء الوطن …
اليوم نضرس بحصرم الماضي، ونجد أنفسنا مشتتين ومختلفين حول جميع المفاهيم ، وهو أمر طبيعي ناتج عن الفخ الذي وقعنا به ولم نتمكن من مغادرته …


الغرب يدرك عمق الكارثة التي رمانا بها، ولو كان بها خير ما ألقاها علينا ودعم رموزها وثبتهم على كراسي الحكم، وهو يعرف أنهم لايمتلكون شيئا من الشرعية بغض النظر أنه هو من جاء بهم، فهل سمعنا بانقلاب في الغرب؟ أو عند عدونا الأول خنجره المسموم الكيان الصهيوني؟ هل جرت ببلدانهم محاولة انقلابية واحدة؟ وهل قبلوا بالأفكار الثورية العنيفة التي أضفى عليها سارقوها القداسة والتبجيل؟ والأصوب ؛ هل حققت هذه الأفكار غير الدمار والموت والقهر والتخلف في بلادنا …


من هنا أناشد الجميع أن يتقوا الله في شعوبهم، وأن يذهبوا إلى أقرب حاوية، ويلقوا بهذه الأفكار البالية الخادعة، فكل فكر لايتطور، ولا يراجع مسيرته وما حققه، وما أخفق به، هو فكر مولود ميتا ولا حياة به …
أجل بكل شجاعة نحتاج إلى مراجعة حقيقية صادمة وصادقة لإنتاج فكر يعبر عن واقعنا وتاريخنا وشخصيتنا، ولا ضير أن نستفيد من الفكر العالمي لكن بخصوصية الهوية الوطنية التي لاتفرط بالثوابت والمسؤولية التاريخية وعظمتها …

شارك عبر

كاتب وباحث سياسي سوري, منافح عن عقيدته غيور على أمته فخور بعروبته, من أوائل الذين إنخرطوا في العمل الثوري ضد نظام الأسد, شاركت في تأسيس العديد من الهيئات والإتحادات الثورية السورية, كتبت للعديد من المواقع والصحف السورية والعربية, كما انني شاركت بعشرات المداخلات التلفزيونية والإذاعية على الجزيرة وغيرها من المحطات التلفزيونية والإذاعية.

جميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة بصرى الشام الإعلامية
0
أضف تعليقx
()
x