العبيدُ يصنعون الطواغيت
العبيدُ يصنعون الطواغيت
إن الطاغوتَ من أضعف المخلوقات البشرية، ومن أوهنها، ومن أجبنها، وأخوفها، ومن أتفهها، وأقلها شأناً.
إنه من أبلدِ، وأغبى مخلوقات الله طراً. وإن كيده ضعيف، وهزيل، لا يختلف عن كيد الشيطان شيئاً، والذي وصفه رب العالمين وصفاً دقيقاً وصادقاً (إِنَّ كَیۡدَ ٱلشَّیۡطَـاٰنِ كَانَ ضَعِیفًا) النساء 76.
إن الطاغوتَ مهما تظاهر بالقوة، والعظمة، والعنجهية، والخيلاء.. إلا أنه في داخله خواء، وفراغ؛ ويملأ قلبه الخوف؛ والرعب؛ والهلع.
إنه دائمُ القلقِ، والحيرةِ، والحذرِ، والتوجسِ من أية حركةٍ، أو أية نأمةٍ. فهو مسهَّدٌ في لياليه؛ لا يذوق طعم النوم إلا قليلاً. إنه مؤرَقٌ طوال الليل؛ يحذرُ أن ينقض عليه حارسُه أو سواه؛ فيقضي عليه.
ولذلك يقول ابن خلدون في وصفه للحاكم الطاغوتي: (يقلب الحاكم توجسه وغيرته من شعبه، إلى خوف على ملكه، فيأخذهم بالقتل والإهانة).
من هو الطاغوت؟
- في معاجم اللغة العربية:
- طَغَا، يَطْغُو، مصدر طَغْوٌ، طُغْوَانٌ
- طَغَا الْحَاكِمُ : تَجَاوَزَ الْحَدَّ، تَجَبَّرَ، جَارَ.
- الطّاغُوتُ : الطاغي المعتدي، أو كثيرُ الطغيان.
- الطّاغُوتُ: طاغية ظالم ومعتدٍ غاشم.
- الطّاغُوتُ : كلُّ رأُس في الضلال يصرف عن طريق الخير.
- الطّاغُوتُ : كل ما عُبِدَ من دون الله، من الجن والإنس والأصنام في التنزيل العزيز: البقرة آية 256 (فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوتِ ويُؤْمِنْ باللهِ فَقَدِ استمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى ).
إذاً هو كلُ حاكمٍ متكبرٍ، متجبرٍ، متغطرسٍ، ديكتاتورٍ؛ يحكمُ الناسَ بالحديد والنار؛ ويفرضُ حكمَه على الناس بقوةِ السلاح.
وهو كلُ حاكمٍ؛ يحكمُ بهواه؛ وبقانون صنعَه لنفسه؛ ولمن يحكمهم؛ وينبذُ شرعَ الله تعالى؛ ويحكمُ الناسَ بالظلمِ، والاستبدادِ، والطغيانِ.
أو يحكمُ حسب هوى الشعب، وحسبَ رغباته، ونزواته، وشهواته، وحسبً ما يريده ويطلبه الشعبُ في الأنظمة التي تسمى ديموقراطية، والتي تعني حكمُ الشعبِ بالشعبِ.. يعني أن الشعبَ هو الإلهُ المعبودُ، الذي يضعُ القانونَ الذي يريدُه ويشتهيه.
ويُعرِّف سيدُ قطب رحمه الله الطاغوتَ بقوله:
(إن الطاغوت هو كل سلطان لا يستمد من سلطان الله , وكل حكم لا يقوم على شريعة الله , وكل عدوان يتجاوز الحق . . والعدوان على سلطان الله وألوهيته وحاكميته هو أشنع العدوان وأشده طغيانا , وأدخله في معنى الطاغوت لفظا ومعنى . .
(قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ) 60.
(وأهل الكتاب لم يعبدوا الأحبار والرهبان ; ولكن اتبعوا شرعهم وتركوا شريعة الله . فسماهم الله عبادا لهم ; وسماهم مشركين . . وهذه اللفتة هنا ملحوظ فيها ذلك المعنى الدقيق . فهم عبدوا الطاغوت . . أي السلطات الطاغية المتجاوزة لحقها . . وهم لم يعبدوها بمعنى السجود لها والركوع , ولكنهم عبدوها بمعنى الاتباع والطاعة . وهي عبادة تخرج صاحبها من عبادة الله ومن دين الله . المائدة ص 120.).
وتأتي البياناتُ الربانيةُ، والتقريراتُ الإلهيةُ الحاسمةُ الجازمةُ؛ بأن قوةَ، وكيدَ هؤلاء الطغاة – وهم أسيادُ الكافرين وعمالقتُهم ومعلموهم – ضعيفٌ، وواهنٌ، وهزيلٌ، وزاهقٌ، وخاسرٌ، وممحوقٌ.
(ذَلِكُم وأنَّ اللهَ مُوهنُ كَيدِ الكافرينَ) الأنفال 18.
(وَما كَيْدُ الكافرينَ إلَّا في ضَلالٍ) غافر25.
(وَمَا كَيْدُ فِرعونَ إلَّا في تَبابٍ) غافر 37.
فالطواغيتُ أتفهُ، وأسخفُ، وأحقرُ، وأقلُ شأناً من أن يحققوا أي نجاحٍ، أو أي فلاحٍ، أو أي انتصارٍ – سواءً كان في الدنيا أو في الآخرة – فاللهُ تعالى يُلاحقهم؛ ويُطاردهم أينما كانوا؛ ويُبطل عملهم؛ ويُفسد عليهم خططهم؛ ويَكسر شوكتهم؛ ويُبدد مسعاهم؛ ويَشل حركتهم؛ ويَخذلهم؛ ويَهزمهم شرَ هزيمةٍ.
هذا وعدٌ من الله تعالى – واللهُ لا يخلفُ وعدَه – أن يُدمر الطواغيتَ، والكافرين، والمجرمين تدميراَ
﴿ومَكَروا مَكْراً ومَكرنا مَكراَ وهم لا يَشْعُرون* فَٱنظُرۡ كَیۡفَ كَانَ عَـٰاقِبَةُ مَكۡرِهِمۡ أَنَّا دَمَّرۡنَـٰاهُمۡ وَقَوۡمَهُمۡ أَجۡمَعِینَ * فَتِلكَ بُيُوتُهُم خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا﴾ النمل 50-52.
متى يكونُ هذا التدميرُ؟
ولكن متى يكونُ هذا التدميرُ، وهذا الهلاكُ، وهذا التقويضُ لبنيان الطواغيت؟
إنه يكونُ حينما تنشأ وتتكون العصبةُ المؤمنةُ الصادقةُ، التي تتمسكُ بالحق بقوة، وتُجابه الباطلَ مجابهةً حركيةً وجهاديةً، وتشتبكُ معه في معركةٍ فاصلةٍ.. حينئذٍ يتحققُ قولُ الله تعالى: ﴿ وَقُلۡ جَاۤءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَـٰاطِلُۚ إِنَّ ٱلۡبَـٰاطِلَ كَانَ زَهُوقࣰا ﴾ [الإسراء ٨١]. وحينئذٍ تسقطُ الطواغيتُ كالحشرات على الأرض، وتدوسُها أقدامُ المجاهدين.
أما حينما لا تكون ثمةَ عصبةٌ أو جماعةٌ مؤمنةٌ، وتمتلئُ الأرضُ بالعبيدِ، والدهماءِ، والغوغاءِ الخانعين الراضخين للطواغيت.. يمجدونهم، ويعظمونهم، ويطيعونهم في كل شيءٍ من أمور الحياة، حتى ولو أمروهم بدخول جُحرِ ضبٍ لدخلوه، أو أمروهم بقتل أنفسهم لقتلوا أنفسهم.
بل أشرُ وأخزى من ذلك! أن هؤلاء العبيدَ العبابيدَ؛ يدافعون بكل قوةٍ وشراسةٍ عن الطغاة؛ بل ويتعاونون معهم؛ ويحبونهم، ويعشقون تقبيل أحذية طواغيتهم – كما ظهر أحد العبيدِ على قناة تلفزيونية عربية؛ وأخذ يقبلُ حذاءَ طاغوتيه على الملأ جهاراً نهاراً؛ ويتفاخرُ ويتباهى بذلك – .
ويعلنونَ الولاءَ الكلي لهم؛ بل ويتجسسون على أهلهِم، وأقربائهِم، وأصحابهِم – الذين لا يزالُ لديهم مسحةٌ من العزة والكرامة – فيصبحون ملكيين أكثرَ من الملك، وطاغوتيين أكثرَ من الطاغوتِ.
ومن الأمورِ العجيبةِ والغريبةِ التي تجعلُ الإنسانَ محتاراً، ومذهولاً؛ أن تُصبحَ الضحيةُ تعشقُ جلادَها؛ وتساعدَه وتعاونَه على سلخِ جلدِها؛ وهي ضاحكةٌ مستبشرةٌ!!!
متلازمة ستوكهلم
وقد تم حديثاً إطلاقُ اسمِ (متلازمةُ ستوكهلم) على هذا السلوكِ المُشين، والمُخزي.. حينما أحب المخطوفون – في حادثة سرقة بنك في ستوكهلم – خاطفيهم، ودافعوا عنهم أمام القضاء السويدي.
فهؤلاء العبيدُ المستخذون، والمستذلون، والمنبطحون، والمستسلمون كلياً للطواغيت.. هم الذين يشجعون ويُغرون الطواغيتَ؛ بمزيدٍ من الطغيان، والاستبدادِ، والتنمرِ والتكبرِ، والتجبرِ على العبيدِ. بل واحتقارُهم، والاستخفافُ بهم، كما قال تعالى عن قومِ فرعونَ: (فاستَخَفَ قَوْمَه فأطَاعُوه إنَّهُم كانوا قَوماً فَاسِقينَ) الزخرف 54.
حينما يجدُ الطغاةُ! هامات العبيد تنحني لهم، فإنهم بالتأكيد؛ لن يترددوا لحظةً واحدةً في الصعود عليها؛ وتسييرها في الطريق الذي يريدونه.
فانتفاشُ الطواغيتِ، وتجبرُهم، وتكبرُهم، واغترارُهم بالعظمة، والأُبهة.. ليس سببُه أنهم أقوياءَ، بل العكس هو الصحيح.. فهم جبناءٌ، رعاديدٌ، ولكنهم يستمدون قوتَهم الظاهرية الصورية، من ضعفِ، وخضوعِ، وخنوعِ، وانحناءِ العبيد لهم، وطاعتهم لأوامرهم طاعةً عمياء، دون أي ترددٍ، ولا تذمرٍ، ولا تأففٍ، ولا تشكِّي، ولا تبرمٍ.
والعبيدُ ليسوا هم قطيعَ الدهماء، والغوغاء، وأوشاب الناس فقط ، بل حكامُ الأرض كلها – الذين هم طواغيتٌ على شعوبهم – فهم أيضاً عبيدٌ لأمريكا، وأخواتها الماسونية والصهيونية.
فهؤلاء الطواغيتُ (العبيدُ) خاضعونَ، وخانعونَ، ومستسلمونَ استسلاماً كلياً للطاغوتِ الأكبرِ، ولا يستطيعون أن يقوموا بأية حركةٍ، أو أية نأمةٍ، بدون موافقته واستشارته.. وإن كان بعضُهم يردحُ، ويُطنطنُ، ويُجعجعُ في الإعلام أنهم سادةٌ، ومستقلون.
بل ويشتمونَ الطاغوتَ الأكبرَ، ويلعنونهُ بكرةً وعشياً؛ لتخدير شعوبهم؛ وتضليلهم؛ والضحك عليهم؛ للحصول على مزيدٍ من طأطأة رؤوس عبيدهم؛ وخضوعهم لهم.
وهكذا! يتبين لنا: أن العبيدَ هم الذين يصنعون الطواغيتَ، وهم الذين يضعونهم فوق رؤوسهم، ويلعقون نِعالَهم؛ بسبب طأطأة رؤوسهم لهم.
فلو أن هؤلاء العبيدَ! رفضوا الانصياعَ لأوامر الطغاة، واستيقظت ضمائرُهم، وأحسوا بحلاوة العزة، والكرامة، وشعروا بلذة الحرية من التذلل لعبيدٍ أمثالهم، وفروا إلى عبودية رب العبيد.. لأبادوا الطواغيتَ؛ ومحقوهُم من الوجود، كما حصل مع المسلمين الأوائل، الذين استطاعوا بقوة العبودية لرب العالمين؛ أن يقتلوا طواغيت قريش؛ وطواغيت فارس والروم؛ ويحرروا العبيد من أسار العبودية لطواغيتهم.
وبسبب أن العبيدَ هم مصدرُ الطواغيت، فقد قال ابن خلدون في مقدمته المشهورة «لو خيّروني بين زوال الطغاة أو زوال العبيد، لاخترت بلا تردّد زوال العبيد، لأنّ العبيد يصنعون الطواغيت ولا يبنون الأوطان».