الإتجاه إلى الذات – صنم القومية!
منذ مؤتمر باريس ١٩١١م والساحات العربية نهب لأفكار مختلفة ومتوافقة في الخط العام أو في التفاصيل في مشهد ينبىء بطفولة العمل الحزبي المتكىء على غيره في بلاد تحاول التنفس من تحت ركام الاستعمار.
يهمني هنا الأحزاب القومية أكثر من غيرها بقطع النظر أن الماركسية والدينية قد اشتركت معها في سلطوية الفكر المتصدر للرؤيا المقررة لأولوية المعتقد وأحقيته في الحكم الرشيد دون غيره.
القومية نتاج الغرب قبل أكثر من مئتي عام ظهرت في ظروف قاهرة ردا على الظلم الذي عانت منه أوروبا تحت حكم الكنيسة، لكنها تحولت إلى صنم ومنبع ثر للظلم فكفرت بها شعوب أوروبا، وهدمت أصنامها في كل مكان حتى غدت سبة وعارا لمن يذكرها مجردة من اللعن.
في وطننا العربي رضينا بهذه المومياء محاولين ترميمها وتجميلها لكن لم يصبنا ما أصاب موريس موكابي في ترميم مومياء فرعون موسى، ولم نراجع حقيقة تاريخية تجعلنا نخجل من استبعاد الدين الإسلامي من هذه القومية مرددين ببغاوية مقرفة: الدين لله، والوطن للجميع، وتجاهلنا عن غباء أو عن قصد أن الدين الإسلامي هو من صاغ قوميتنا وجعلنا أمة، منكرين جميلا تاريخيا صاغ شخصيتتا وهويتنا وأننا أمة من نتاج السماء، ولم ندخل يوما في صراع مع أصولنا لنتخلى عنها وننبذها ونرتدي غيرها عبر تاريخنا الطويل، وأنه لأول مرة نخرج عن الذات المعبرة عن الأمة في الثلث الأول من القرن الماضي وإلى يومنا هذا في ضياع هو في حقيقته تيه في صحراء عقيم.
هذا الخروج أحدث اضطرابا في الذات الجمعية وأصابها بانفصام حاد في شخصيتها جعلها غير قابلة لتطوير الفكر ، وزاد من فقدان الأصول الطبعية لإنتاج الفكر، رؤيا، نظرية تجربة، تطور ، بل جعل الفكر، وهنا الإطلاق مجازي بحت، يتقوقع في عبادة التنظيرات الأولى وصنميتها ويدور حولها مغطى العينين، فدخلت هذه الذات الحزبية في أزمات الوفاء للماضي، والمحافظة على البدايات، وتقديس الأوائل في توقف مشين للعقل والحوار ومراجعة المسيرة، وعدم الخوف من فقدان الزمن.
فنحن اليوم أمام : اذكروا محاسن موتاكم، وهؤلاء المتمسكون بماضيهم ليسوا سوى صور مستنسخة للتكرار الفارغ.
إن مواجهة الذات من أعلى درجات إعمال العقل، ومراجعة الفكر، للوصول إلى شجاعة الاعتراف بالخطأ لتطوير المنتج الموروث ووضعه على الطريق الصحيح رغم طول المدة الزمنية على موت هذه الأفكار التي تبنت القومية الغربية.