المسلمون ودائرة “العولمة” الجهنمية!
مدة شهر من التواصل مع أحد قطاعات المجتمع التجارية المهمة، كانت كافية لتوليد فكرة، أزعم أنها عميقة ودقيقة إلى حد ما، عن القوانين والأعراف التي تحكم سوق العمل، سواء في العقارات أو في غيره.
الأسماء والأشكال مسلمة، لكن الجوهر بعيد تماما، فالمنطق المادي هو الذي يقود النفوس، ومبدأ الربح مقدس، لا يعلوه مبدأ آخر، وقد بلغت الأعراف والقوانين الناظمة لآليات العمل في الأسواق من القوة، ما جعل جميع العاملين، إلا قلة قليلة جدا من العشرات الذين تعاملت معهم في مناطق مختلفة ومن جنسيات متنوعة، يتشابهون في المسلك المهني ونمط التفكير، يستوي في ذلك المتدين مع غيره، والرجل مع المرأة، والشيخ مع الصبي.
يزين لك أحدهم السُمّ، محاولا إظهاره بلسما شافيا، ويحيط الخرابة بدثار من حرير ليقنعك بأنها الجنة الموعودة، وينهمك وراء إنجاز الصفقة حتى ولو على حساب ما جناه الناس في أعمارهم بحثا عن حلم صغير يأمنون في تحقيقه على أنفسهم وعوائلهم بوائق الزمان، ويلهث الرجال في ذلك، مثلهم مثل كثير من الأطباء الذين تحولوا إلى تجار كاملي الأوصاف، لهاث من لا يؤمن ببعث بعد الموت، وبسؤال في باطن الأرض، وبحساب يوم العرض!
وليس بعيدا أبدا عن هذه الشريحة ترى المتدينين من حملة الشهادات العليا، وأساتذة الجامعات، إلا من رحم الله، يقولون قولا، مثلا، ثم ينقضونه بعد دقائق إذا ما تعارض قولهم الأول مع مصلحة ذاتية آنية مهما ضاقت.
السمسار والطبيب والتاجر والعامل والخياط والبائع في البدالة والموظف وإمام المسجد وطالب العلم الشرعي، وغيرهم من فئات المجتمع، إلا القلة القليلة التي لا يبنى عليها حكم، باتوا أشبه بوحوش ضارية تسيّرهم قوانين الغابة، يبحثون عن زبون فريسة، يمصون دمه إشباعا لضرورة البقاء في سوق لا يرحم.
لا يمكن النظر إلى الأصناف التي تعاملت معها في مدة ربت على الشهر، كلصوص أو منحرفين أو شريرين بقدر ما ينبغي النظر إليهم كضحايا لآلة مركزية دولية تضخ المفاهيم والرؤى والتصورات، وتعمم الأخلاق والعلاقات وأنماط التفكير في عالم بات، حقا، قرية صغيرة لا من حيث اتصاله وتواصله، كما يراد لنا أن نفهم، وإنما من حيث التشابه المذهل في أنماط الحياة ومناهج التفكير وطرق الاستهلاك.
لست قادرا، حتى اللحظة، على تقييم تجربتي التي أحدثكم عنها، ومعرفة حقيقتي ومكاني الصحيح في المجتمع أمام أسئلة ثائرة في ذهني يأخذ بعضها بعدا وجوديا، من قبيل:
لماذا تولد عندي هذا الشعور العميق بالغربة عن مجتمع أعيش فيه منذ سنين، وأتكلم بلسانه، وأحمل سماته المورثية العامة؟!
هل حقا كنت الحلقة الأضعف في منظومة السوق الذي اختلطت به طوال شهر؟!
كيف أستطيع إنجاز هدفي، وتأمين حاجاتي، بطريقة ليس فيها تجاوز لأحكام الدين الذي أومن به، ونصوصه التي ألزم نفسي بها؟!
كيف أستطيع الاندماج في قطاعات مهنية، عند الحاجة، دون الهبوط في دركات الكذب أو الغش أو الهمز أو نقض العهد أو الإخلاف بالوعد؟!
كيف أحقق معادلة المؤمن القوي في وسط تواضع رواده على قوانين وأعراف وآليات موازية لتلك أخضع لها؟!
بل، أي قوة بشرية، مهما كثر عدد هيئات علمائها الإسلامية، وجمعياتها الشرعية، وخطبائها ودعاتها ومفكريها الذين يلاحقهم الملايين ويلهثون وراءهم مصفقين لما يكتبونه ومعجبين، أي قوة مهما بلغ شأنها مما ذكرت، يمكن أن تعيد هذا المجتمع إلى رشده، وأن تصحح له أخلاقه، وأن تعيد لعقله اتزانه؟!
الحقيقة التي لا مراء فيها، عندي، أنْ بات لله سبحانه وتعالى، في قلوب كثير من المسلمين منافسون، ليس أولها الهوى، ولا آخرها المال.
لقد عُبث بمورثاتنا، في معركة حضارية مستمرة منذ قرون، وبلغ الخطر مدىً ألفت فيه نفوسنا الانحراف، ونفرت من الاستقامة، ومالت فيه الفِطَر عن الطريقة الربانية إلى الطريقة الشيطانية، فلم تعد تؤمن إلا بما تحس، ولا تستلذ إلا بما تمس، فصار دوران الحياة حول المادة في استجابة عميقة وعملية لقيم العولمة التي لم يعد أحد فيها قادرا على التفريق بين أحمد وجورج، ولا بين عبد الله وجان إلا في الرسم.
العولمة التي تقوم على قاعدة التفكير الحر، والمنفلت من كل عقال أخلاقي وإنساني، أوجدت هالة كبيرة لا تستطيع الشعوب الضعيفة، وفي القلب منها المسلمون، أن تبصر خارجها، ولا أن تفكر بعيدا عنها، ولا أن تجترح حلولا لمآسيها من دون تأثيرها.
والحال كذلك، لا قِبَل لعاقل أن يرى وسيلة لكسر هذه الدائرة الجهنمية التي يدور نمط حياتنا في فلكها، تفكيرا وممارسة، إلا بالعمل ليل نهار دون كلل ولا ملل، على تظهير نظام سياسي يقوم عليه رأسٌ عاقل وصالح وعالِم، فالنظام السياسي هو المسؤول الأول عن ملء فضاءات المجتمع بفضائل الأخلاق، ومناهج التفكير، اللذين يحددان آليات الحياة المجتمعية، وسمات العلاقات البينية، وقيم العمل، وطبيعة التطور المنشود، ومسار التقدم المُرام.
مقال رأي بقلم الأستاذ جهاد عدلة
معد ومقدم برامج حوارية على شاشة الرافدين العراقية. ما يرد من أفكار في ما أكتبه، يمثلني حصرا، ولا علاقة لجهة عملي به.