صفقة الرفيق المناضل!

هذه القصة حقيقة وليست من نسج الخيال حدثني بها أخ عزيز مشار إليه باسم المقدم كمال!

كان اليوم الخامس عشر من نيسان يوماً في كلِّ أيام عمري ، ليس لي أن أنساه، ولا يمكن له أن ينسحب من حياتي ليريحني.

ذلك اليوم الذي كنت به في مكتبي في اللواء المدرع الثاني المرابط على مشارف مدينة القنيطرة أراجع محاضرة لي عن خطر الشائعة على معنويات العسكري؛ لكوني ضابط التوجيه المعنوي في اللواء.

وكان لزاماً عليَّ أن أكرر جملاً محنطة كأيِّ آلة تسجيل لا تتوقف عندما تقوله، فالمهم أن أمجِّد الحزب الطليعي القائد، وأهدافه في الوحدة والحرية والاشتراكية، وأنه الحل الوحيد لجميع مشكلات العرب للنهوض والتقدم، وكان عليَّ أيضاً أن أشن هجوماً حماسياً عنيفاً على البعث اليميني المشبوه، وارتباطه بالدوائر الرأسمالية الغربية والمخابرات الأمريكية والمصالح الصهيونية ، وأن أظهر بجلاء خطر (الظاهرة الدينية) وارتباط جماعة الأخوان المسلمين بالغرب والرجعية العربية.

لم يكن أحد يعلم أنني متعاطف مع القيادة القومية التي نسميها باليمين المشبوه، ومحبٌّ للفريق أمين الحافظ والضباط المعتقلين في سجن المزة منذ نجاح الانقلاب عليهم في صبيحة يوم 23/2/1966م بقيادة اللواء صلاح جديد وجناحه المعروف باللجنة العسكرية أو القيادة القطرية، ولم تكن هناك مشكلة فكرية، فالمنهج التثقيفي لم يتغير في أصوله، وإنما في بعض الجوانب الشكلية السياسية فضلاً عن دخول أفكار أكثر يسارية وثورية وتمجيداً للاتحاد السوفيتي.

وبيما أنا أمارس اجترار كلماتٍ اعتدت تكرارها، قرع الباب حاجبي وحياني قائلاً: سيدي المقدم أخوكم في الباب، فأجبته باستغراب: أخي… ليدخل، وعيناي ترقبان بشك دخوله ولهفة صوته: أسرع يا كمال، الحكومة كلها عندنا في البيت، وعلى وقع المفاجأة لممت أوراقي ووضعتها في درج المكتب، ثم اتصلت بالسيد آمر اللواء فأخبرني بأنه على علم وسيلحق بنا.

ارتديت قبعتي وانطلقت وأخي بسيارة الجيب نحو منـزلنا محاولاً معرفة شخصيات الزوار، وسبب اختيارهم لنا، لأن أخي كان لا يعلم شيئاً سوى أن السيد رئيس مجلس الوزراء الدكتور يوسف زعين وبرفقته حوالي عشرة من السادة المسؤولين وصلوا إلى بيتنا.

دخلت إلى بهو الاستقبال، وإذا بي وجهاً لوجه أمام السيد رئيس مجلس الوزراء، فوقفت باستعداد وأخذت له تحية، ثم شرعت في السلام والترحاب به وبالسادة المسؤولين وبعد أن استعدت أنفاسي من صدمة المفاجأة الجميلة نهضت ووالدي إلى أفضل الخراف فذبحنا منها خمسة سماناً، وإلى حين إنجاز المؤدبة انتظمت مع السادة المسؤولين القادمين بزيارة تفقدية للجبهة، والاطلاع على جاهزية قواتنا ، ومعنويات الضباط والجنود، فأجواء الحرب قد بدأت تلوح في الأفق المنظور، وكالعادة في مثل هذه الزيارات فقد بدا الجنود في غاية الانفعال في هتافاتهم وأهازيجهم وتأكيدهم على سحق العدو الصهيوني، وتحرير فلسطين.

وفي طريق العودة إلى البيت كان على الوفد أن يجتاز مسافة داخل أملاكنا الخاصة حيث البساتين الغناء، وكروم العنب، وألواح الخضرة الممتدة على جانبي الطريق الزراعي المؤدية إلى ساحة بيتنا، وقد زادت المكان بهاءً وبهجة نسائم شهر نيسان، ولطافة شمسه الذهبية.
ولم يبخل السادة المسؤولون علينا بالمديح والإطراء على لذاذة الطعام ، وأصالة الكرم، وحسن الاحتفاء بهم.

كان قريباً مني الرفيق (سليمان) عضو القيادة القطرية لحزب البعث، وبإشارة منه نهضت معه ملبياً طلبه في جولة قصيرة في الحقول والبساتين، وما إن قطعنا مسافة متواضعة حتى بادرني بقوله: هل هذه الأراضي كلها ملك لكم؟

  • أجل يا سيدي، توارثناها أباً عن جد.
  • اسمع يا مقدم كمال، من دون دخول في التفاصيل، أو أية أسئلة، أريدك أن تفهم كلامي جيداً.. في أسرع ما يمكن بيعوا هذه الأراضي جميعها، وهذا عنواني ورقم هاتفي الخاص، وسوف أساعدكم على شراء (فيلا) جميلة في أجمل أحياء دمشق الراقية، ونستثمر أموالكم في مشاريع مربحة جداً، .لم أصدق ما سمعته، وكأنني في حلم،
  • فقلت له، وقد اختل توازن شفتي: كيف نبيع أرضنا؟ هذا مستحيل، بل هو عارٌ علينا إن فعلنا؟ ثم تماسكت قليلاً، أمام بروز امتعاض الرفيق سليمان، محاولاً انتقاء ألفاظ تليق بمقامه، فقلت العفو رفيق، هل هناك ما يدعونا إلى بيع أراضينا، نحن شيوخ المنطقة والعشيرة ؟

أفرد الرفيق سليمان حاجبيه على ابتسامة هازئة مستخفة بكلامي، وملأ عينيه من حيرتي ، ثم قال: ألم أقل لك لا تسألني عن الأسباب، ولا تبحث عن التفاصيل، على أية حال لقد استعجلت في نصيحتك ظناً مني أنك ستفهم محاولتي إفادتكم، انتهى الأمر، وانس الموضوع تماماً.

سرت على جانبه صامتاً ، فلمَّا بدونا للجالسين نهض السيد رئيس مجلس الوزراء، فنهض الجميع معه، وساروا نحو سياراتهم، ولما دلفوا إلى داخلها لاح لي وجه الرفيق سليمان يشدُّ انتباهي إلى ابتسامة مفتعلة…

لاحظ والدي أني مستغرق بالتفكير، وقسمات وجهي توحي له أن همَّاً ثقيلاً يغزوني بلا هوادة أو شفقة إلى الحدِّ الذي جعلني لا أسمع صوته ، وهو يكلمني، وحين انتبهت له بادرني: ما بك يا ولدي؟ أين كنت؟ وجهك حزين لا يوحي بأنك وعدت بشيء جميل من قبل المسؤول الذي اصطحبك خارج المنـزل .

هززت رأسي فاركاً يدي ببعضها متنهداً: إيه يا أبي، وهل عند هؤلاء ما يفرح ، ثم نهضت لأجلس إلى جانبه متابعاً كلامي: لا أدري ما أقوله لك ، هل تصدق أن هذا السيد الرفيق المناضل قد طلب مني أن نبيع جميع أراضينا وأملاكنا، وأن ننتقل إلى دمشق بأسرع وقت للسكن فيها، واستثمار أموالنا بمساعدته ومشورته!
فضحك والدي من كل قلبه قائلاً : وهذا ما يشغلك ويحزنك، وكأنك لا تعرف طبيعة هؤلاء الناس، فهؤلاء، يا ولدي ، ليس لديهم أي ارتباط بالأرض ولا يعرفون قيمتها وما تعنيه لأهلها ، ثم مدَّ كفيه وقد بدت كتضاريس هضابنا وودياننا، قائلاً:
هذه وحدها تعرف قيمة الأرض ورحلة العمر معها ، وليس كفّ الرفيق التي لا تعرف سوى الكأس والسيكار الكوبي، والمناديل الناعمة. هه.. لم يبق لنا من ناصح إلا شباب شرم برم كعب الفنجان ….

ازدادت الأمور تعقيداً في احتمالات نشوب الحرب ، وكانت جميع التعليمات التي ترد من القيادة والإجراءات التي نقوم بها في القطعات العسكرية تؤكد قرب اندلاعها.

وأوضحت الأيام الأخيرة قبل الخامس من حزيران أن الحرب واقعة لا محالة ، وأنَّ نشوبها محتمل في كل دقيقة تمرُّ ، وأن مصر ستكون في ألولويات الهجوم الصهويني بعد أن سحب العدو اثني عشر لواءً مدرعاً من سهل الحولة من أصل أربعة عشر لواءً كان قد حشدها أمام قطعاتنا.

وفي الخامس من حزيران شنت الطائرات الصهيونية هجوماً عنيفاً على المطارات الجوية في تكتيك عالٍ استغل فيه التوقيت الصباحي السادسة صباحاً، وطيرانها بشكل منخفض على وجه البحر لتلافي الرادارات المصرية، فنجحت في تدمير مئتين وخمسين طائرة ميغ جاثمة خارج مخابئها.

كنا نتوقع أن تقوم الطائرات السورية بقصف مدارج الطائرات الصهيونية لمنعها من الهبوط، وإفشال معاودة قصف المطارات العربية؛ إلاّ أنَّ شيئاً من هذا لم يحدث، لا بل إن الجبهة السورية بقيت تغط في سباتها طيلة ذلك اليوم ، ولم تحرك القيادة سكونها، فقضينا ذلك اليوم الأول بالاستماع على محطات المذياع، وما يصدر من بلاغات عسكرية مصرية وصهيونية.

وفي عصر اليوم الثاني بدأت المدفعية السورية برمايات متقطعة على مواقع العدو في سهل الحولة؛ وكأنها تنفذ مشروعاً تدريبياً ، ولولا ردُّ العدو علينا براً وجواً لما شعرنا بوجود الحرب.

وفي اليوم التاسع من حزيران اتضحت الحرب للناس جميعاً ولي شخصياً حين أصدر وزير الدفاع السوري بيانه الشهير المرقم (66) والقاضي بالانسحاب الكيفي للجيش السوري من هضبة الجولان.

ولم يكن هناك جندي صهيوني واحد قد اقترب من حدودنا ، بل إن الإعلان عن سقوط مدينة القنيطرة كان في واقعه لا أساس له من الصحة.

حملت ما استطعت من أفراد أسرتي في سيارتي العسكرية وأمَّنت البقية في سيارة أخرى، وانطلقنا نحو دمشق حيث تمَّ إرشادنا إلى إحدى المدارس الثانوية.

أمضينا خمسة عشر يوماً في المدرسة تحت ظروف قاسية كنا خلالها نجوب شوارع دمشق الحزينة بحثاً عن شقة متواضعة تؤوينا، فقد التهبت الأسعار بشكل لا يوصف مع خشية أصحابها من اللاجئين ووضعهم المادي ، أو تمليكهم إياها من قبل الدولة حسب شائعات سرت آنذاك.

وبعد جهد حثيث ومساعدة أصدقاء لنا وتزكيتنا أمام أصحاب شقة صغيرة استأجرناها في حي شعبي بمنطقة الميدان حيث ضاقت بنا وبهمومنا ودموع النساء، وآهات الرجال، وتكرار كلمات عدم تصديق ما جرى لنا بهذه السرعة.

وفي زحمة هذه الهموم التي تنوء بكلكلها على صدورنا ارتسمت أمام عيني صورة الرفيق سليمان عضو القيادة القطرية لعلي أجد عنده ما يخفف عنا ما نحن به، فانطلقت إليه محمولاً بشعور غامر من الانكسار والإحباط ، وطلبت مقابلته، فاستقبلني بمكتبه الفاره الجميل، وانهال عليَّ بألفاظ الترحاب والسؤال عن سلامة جميع الأهل

كنت أجيبه محاولاً إيجاد مدخل مناسب لإظهار أسفي على عدم سماع نصيحته الذهبية، حتى إذا سنحت لي الفرصة، وتفوهت بأول ألفاظي عنها؛ انتفض الرجل كمن صب عليه ماء بارد في غفلة منه ، وصرخ بي “شو ، شو… ولك إنت مجنون … أي نصحية … العمى يضربك … يخرب بيتك على هالقصة ” فحاولت أن أمسك بكلمة اعتذار عمَّا زلَّ به لساني ، لكنه قاطعني حازماً جازماً: إخرس يقطع لسانك شو ما ابتفهم… وسادت لحظة صمت خانقة، فتململت مظهراً رغبتي بالمغادرة ، فقمعني بإشارة قوية من يده قائلاً:
إجلس ، ومدَّ يده إلى حزمة مفاتيح حيث وضع واحداً منها في القاصة الرصاصية اللون المتربعة على يمينه ، وأخرج مبلغ مئتي ليرة سورية ، قائلاً : خذ هذا المبلغ البسيط دبر به أمورك ، قاطعاً علي اعتذاري أو حتى شكري له .


أخذت المبلغ ، وسلمت عليه بكل حياء ، وقبل أن أفتح باب الغرفة ناداني باسمي فالتفت نحوه بقولي : حاضر أستاذ ، ولم يتح قوله لي بعض الأمل في تغيير موقفه ، إذْ قال لي : اسمع “ما بدي شوفك تاني مرة هون ، مفهوم؟

هززت رأسي بالإيجاب ، وغادرت مبنى القيادة القطرية فاقداً إحساسي بالمكان الذي أنا فيه ، وحين وصلت إلى الشارع شعرت بأن غمامة سوداء تغطي على إدراكي بحيث لم يعد بمقدوري أن أستبين طريقي ، وهل هو نحو اليسار أم نحو اليمين ، فقد بدت المعالم أمامي أشبه بخطوط على خريطة لم أرها من قبل .

وفي يوم 11 / 7 / 1967م ، وبينا أنا عائدٌ من قطعتي العسكرية متجهاً صوب موقف الباص الذاهب إلى الميدان أقبل نحوي أحد الضباط على غير رغبة مني في رؤيته أو رؤية أمثاله ، ورغم أني على علمٍ تام بأنه من كتابي التقارير الأمنية ، والصيادين الماكرين في المياه الآسنة إلاّ أنَّ أعصابي غلبتني وبدأت تهيج بدمائي دافعة بها نحو رأسي المثقل بالهموم مذ أن احتقنت عيني برؤيته ، ومما أشعل النار في صدري برودة ألفاظ سلامه علي ، ونفسه الثقيلة ومباشرتي بالقول من دون مناسبة : أين أيام العز يا مقدم كمال ، أين ظلال الكروم عن لهيب هذه الشمس ، من يراك على موقف الباص لا يصدق أنك كنت تلعب بالنقود ، وأنك اليوم تنـزل بباص القافلة العسكرية من القطيفة إلى الشام .

فانفجرت عليه بالشتائم على أيام العز وأهلها ، ومن أضاعها ، واسترسلت شتائمي على غير عادة مني فلم يسلم منها الرئيس والقيادة والحزب، ولم أصحُ على كلامي إلاّ في منتصف الطريق إلى البيت ، فرحت أدفع ببطء الباص شكوكي وخوفي، وأُمنِّي النفس المستسلمة ليأس هدوء أعصابي بالخلاص من هذا الفخ ، لكن قلبي أوصد جوانحه أمام أي اطمئنان أرسله له .

وحقاً كان ما خشي القلب منه ، ففي فجر اليوم الثالث من ذاك اللقاء المرِّ طوَّق رجال الأمن الحي الذي نسكن فيه ، واقتادوني إلى سجن المزة حيث قضيت به سنة حسب قرار المحكمة العسكرية العليا، رغم كثرة المتوسطين لي لدى المسؤولين والرفاق، فخرجت وقد خلعت آخر ما تبقى لي وهي رتبتي العسكرية مصدر الرزق الوحيد ، فأصبحت رهناً للبطالة وفق قرار الأجهزة الأمنية بمنع توظيفي لدى الدولة.

أمضيت سنة تحت المراقبة التامة ، وقد ابتعد عني الأصدقاء المقربون حفاظاً على سلامتهم وبدأت صحتي تسوء لسهري الليل بكامله والنوم حتى وقت متأخر من النهار .

فكان لا بدَّ مما لا بدَّ منه وهو الهروب من وطني أطوي السنين الطوال من بلدٍ إلى آخر على الأمل الغائم والألم الدائم .

شارك عبر
جميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة بصرى الشام الإعلامية
1
0
أضف تعليقx
()
x